مصطفى إنشاصي Wednesday 04-02 -2009
سألني أحد الأصدقاء من فلسطين أمس عبر الانترنت: ما هي آخر كتاباتك؟ أجبت: لم أكتب شيء! قال: لماذا؟! قلت: أترى ما يحدث هذه الأيام سياسة؟ أجاب: بكلمتين تعنيان أنه ليس سياسة. بعدها بقليل حضر بعض الأصدقاء لتعزيتي بوفاة والدتي، ولأننا كفلسطينيين يغلب عندنا الهَمْ والمُصاب العام على الخاص؛ كان حديث كل مَنْ يحضر عن ما طرحه الأخ خالد مشعل قبل يومين عن محاولة الاستفادة من زخم الحرب على غزة في تشكيل منظمة تحرير فلسطينية جديدة، وكثير مِمَنْ لم يستطيع فهم دوافع وأسباب تلك الدعوة اتفق مع صديقي من فلسطين في توصّيفه لما يحدث، وإن كنت لا اتفق معهم فيه؛ إلا أنه دليل على مدي الصدمة التي سببتها تلك الدعوة والخوف من المستقبل، خاصة مَنْ لم ينسوا ذلك التاريخ الدامي الطويل الذي سبق أن تسببت فيه محاولات مماثلة ولم تنجح!! ولأن الساحة الفصائلية الفلسطينية لا تحتمل الرأي الآخر مهما كانت موضوعيته وحياديته لمجرد قرب الكاتب من الطرف الآخر! رأيت أن أنشر هذه الحلقة التي سبق لي أن أكدت على مضمونها طوال سنوات عندما كان موقفي السياسي قريب من موقف الإخوة في حماس وعلى الرغم من حرصي على منظمة التحرير كنت مُصنف عليهم! ولا أريد أن يصنفني الإخوة في حماس بعد الحلقة التالية على أني سلطة.
منظمة التحرير والكيانية الفلسطينية
على الرغم من كل ما قدمته الثورة الفلسطينية من ملاحم بطولية، وما قدمته الجماهير الفلسطينية من تضحيات، وما قدمته قيادة منظمة التحرير من جهد سياسي، إلا أنها لم تكن ناضجة النضج الكافي لاستثمار كل ذلك، أو استثمار الأحداث التي كثيراً ما كانت لصالح هدف التحرير الفلسطيني، لتحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، لأنها كانت دائماً تستعجل قطف الثمرة، فتُقدم على التنازل على أمل أن يستجيب الطرف الآخر، أو على أمل أن يكون للأنظمة العربية موقف حازم رداً على عدم استجابة الطرف الآخر، ولكن كان كل ذلك بدون فائدة، وكان يُراكم نتائج سلبية ترتد على مستقبل القضية، ولأن القيادة الفلسطينية كانت لا تمتلك إستراتيجية واضحة المعالم لتحرير فلسطين، ولأنها كانت تفتقد إلى التجربة الناضجة سابقاً قبل الانطلاقة، ولأن الأنظمة العربية هي في الأصل مع كل خطابها التعبوي الثوري والتقدمي لم تكن جادة في ذلك الخطاب، وكانت تعلم حدودها جيداً، وتدرك قواعد اللعبة.. الخ. كل ذلك أجهض تجربة الثورة الفلسطينية، وحكم عليها بالفشل مسبقاً.
إلا أن موقفي ذلك لا يعني أن الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير لم تكن لها إيجابيات، أو لم تحقق أي إنجازات بالعكس: لقد كان الشعب الفلسطيني قبل الثورة باتجاه الاندثار والضياع، يسير إلى الانعدام، لقد كان الشتات الفلسطيني في طريقه لينتهي إلى كم عددي هنا وهناك، يضعف ارتباطه بوطنه يوماً بعد يوم وتتباعد المسافات بينه وبين بعضه البعض على جميع الأصعدة، والأنظمة العربية تعمل على تغييب الوعي الفلسطيني وارتباطه بأرضه، وتواصله كشعب واحد له قضية، تحت شعارات قومية وأممية متعددة. لقد كانت القضية والكيانية الفلسطينية برمتها مهددة بالاندثار والضياع، مما كان سيسهل بعد ذلك تصفية القضية، فكان من أعظم انجازات الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير هو: الحفاظ على الكيانية الفلسطينية المستقبلية، بل قل: إنها أعادت تشكيل هذه الكيانية من العدم، لقد جعلت كل فلسطيني، في أي مكان في العالم يشعر بانتمائه إلى الشعب الفلسطيني، إلى الكيان الفلسطيني وأن الشتات لم يلغي هذا الكيان، وأصبح كل فلسطيني يشعر أن عليه واجب، بصورة أو أخرى، عليه أن يؤديه تجاه شعبه الذي هو جزء منه، يكفي هذا الإنجاز للثورة. لقد أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية هي الكيان السياسي المعنوي للجماهير الفلسطينية التي تعبر من خلالها عن وجودها كشعب له حقوق وطنية لا يمكن التنازل أو التفريط بها، وأن له الحق في تقرير مصيره مثل جميع شعوب العالم، ويكون له دولته المستقلة على أرض آبائه وأجداده التاريخية.
ولأن الحياة والعمل في أي أمة أو مجتمع هو تكاملي بين جميع أفراد وأجيال المجتمع، فإنه في الوقت الذي عملت فيه الثورة الفلسطينية على الحفاظ على الكيانية السياسية والنضالية لمجموع الشتات الفلسطيني، إلا أنها أهملت أو تجاهلت البعد الديني في الصراع، أو دور الدين في الحافظ على ترابط المجتمع الفلسطيني وشده إلى بعضه البعض، ودوره في التعبئة الثورية والجهادية للجماهير الفلسطينية. وفي الوقت الذي تجاهلت الثورة ومنظمة التحرير ذلك؛ كانت الحركة الإسلامية الفلسطينية سواء في الأراضي المحتلة عام 1967م ، أو في الشتات وخاصة في الأراضي المحتلة تقوم بهذا الدور، لتحافظ على النسق والبناء والنسيج الاجتماعي الفلسطيني، والأخلاق الإسلامية في المجتمع، وتقوم بدور التعبئة الدينية للجماهير في مواجهة عمليات الهدم والتدمير والإفساد للمجتمع والأخلاق التي يقوم بها الاحتلال اليهودي، حتى إذا ما قاربت التجربة الوطنية على استنفاد دورها، قامت الحركة الإسلامية بإكمال ومواصلة ذلك الدور، ومساعدة الحركة الوطنية التي وقعت تحت الضغوط العربية والدولية وكادت تضيع إنجازاتها العظيمة، لتستعيد التقاط أنفاسها وتعود لمواصلة دورها إلى جانب شقيقتها الحركة الإسلامية. للأسف أن ذلك ما ترفض قيادة منظمة التحرير الاعتراف به وتحاول معاندة سنن التغيير والتطور في الثورات وتاريخ الشعوب والأمم.
المسئولية انتماء
سبق أن قلت أنه يصعب على المنتمي أن يكون حيادياً، وأن الوقوف على الحياد صعب جداً؛ فما بالك إذا كان الذي يسعى إلى الحياد منتمي لقضية دين وأُمة ووطن، وقد قضى ما مضى من عمره في تحمل المسئولية والدفاع عنها في ميادين الصراع المختلفة وما زال، والأهم أنه كان له موقف ورأي في كل ما حدث ويحدث لهذه القضية، ولأن المسئولية انتماء؛ فقد كان وما زال موقفي من منظمة التحرير أعلاه كما هو؛ ولكني ضد نهج منظمة التحرير السياسي، الذي يُفرط بالثوابت الفلسطينية والحقوق الوطنية، ضد منظمة التحرير التي تحولت إلى إطار مهمل، واسم فاقد لمعناه وجوهره، ضد منظمة التحرير التي لا دور لها ولا عمل إلا الاجتماع فقط للتوقيع على القرارات والمراسيم العشوائية المتسرعة التي تصدر تحت تأثير الضغوط الخارجية، التي لا تملك إرادة القرار الفلسطيني الوطني المستقل، ولجنتها التنفيذية ومجلسها المركزي والوطني كلُ يعمل جهده للحفاظ على الوضع القائم حرصاً منه على مصالحه الشخصية ومكاسبه المادية.
كما أني ضد سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطيني كعملية سياسية، لأنها كانت وما زالت تركض خلف سراب تسميه (سلام)، وأعتبر أنها تَهدر وقت الأُمة لصالح مشروع أعداء الأُمة والوطن، وعلى حساب مصلحتنا الوطنية ومشروع الأُمة الحضاري التواق إلى التحرر والوحدة والنهوض، خاصة وأن نوايا العدو اليهودي ـ الغربي من توقيع اتفاق أوسلو لم تعد خافية على من لا يفقه في السياسة شيء، وقد انكشفت تلك الحقيقة إن لم يكن بعد فشل مباحثات كامب ديفيد 2000، فبعد قتل الرئيس الراحل ياسر عرفات مسموماً، وانقلاب مستشاريه الأقربين على ثوابته التي قضى إلى الله رافضاً التفريط فيها.
وفي الوقت نفسه أنا لست ضد منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع شامل لجميع الفلسطينيين، وكهوية وطنية تجمع تحت مظلتها اللاجئين الفلسطينيين في جميع مواطن شتاتهم وتحافظ على حقوقهم الوطنية، ولست ضدها ككيان سياسي يوحد ويدمج ويصهر جميع الفصائل والجماهير الفلسطينية في بوتقتها، على أساس الكفاءة والنزاهة والحرص على المصلحة الوطنية والتمسك بالثوابت والحقوق الوطنية، وما دامت تعبر عن طموحاتهم وأمانيهم وتحافظ على مشروعهم الوطني الحقيقي الساعي للتحرر والاستقلال ونيل حقهم في تقرير المصير، كما أنني لست ضد منظمة التحرير الفلسطينية ما سعت لإصلاح نفسها وتطوير دورها وتفعيل مؤسساتها واستعادة قيادتها للجماهير الفلسطينية على أُسس جديدة وصحيحة، تسمح بتطوير نهجها السياسي ومبادئها ليشمل إطارها جميع القوى والاتجاهات الفكرية والسياسية التي تقف خارجها.
كما أني لست ضد سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطيني في الأراضي المحتلة، ما التزمت حدود دورها، وأدركت بداية ونهاية صلاحياتها، وما حافظت على ثوابت الجماهير الفلسطينية وحقوقها الوطنية، وما التزمت بالعودة إلى مرجعيتها الشرعية ليس منظمة التحرير ولكن الجماهير الفلسطينية التي أعطت للمنظمة شرعيتها الجماهيرية قبل أن تحصل على شرعيتها السياسية عربياً ودولياً، وما حافظت على وحدة الأراضي المحتلة جماهيرياً وجغرافياً، وما حافظت على حق الجماهير الفلسطينية في المقاومة ضد الاحتلال، وما حرصت على إفشال مخططات العدو اليهودي ـ الغربي ضد الأُمة والوطن، وما سعت لحل الخلافات البينية بالحوار والتفاهم البناء، وما حافظت على استقلالية مشروعنا وقرارنا الوطني الذي قدمت الجماهير الفلسطينية ومن ورائها الأُمة العربية والإسلامية التضحيات الجسام.